الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
.الباب الخامس من المقدمة في قوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله وآداب أهله: .الفصل الأول في بيان رتبة صاحب هذا الديوان ورفعة قدره وشرف محله ولقبه الجاري عليه في القديم والحديث: قال: ومن كانت هذه رتبته فالسبب الذي رتبه فيها أفضل الأسباب وأجدرها بالتقديم على الاستحقاق والاستيجاب. قال ابن الطوير في ترتيب الدولة الفاطمية وكان هذا المنصب لا يتولاه في الدولة الفاطمية إلا أجل كتاب البلاغة، ويخاطب بالأجل، وإليه تسلم المكاتبة واردة مختومة فيعرضها على الخليفة من يده، وهو الذي يأمر بتنزيلها والإجابة عنها وربما بات عند الخليفة ليالي، وهذا أمر لا يصل إليه غيره. قال: وهو أول أرباب الإقطاعات في الكسوة والرسوم والملاطفات ولا سبيل أن يدخل إلى ديوانه أحد ولا يجتمع بأحد من كتابه إلا الخواص، وله حاجب من الأمراء الشيوخ، وله في مجلسه المرتبة العظيمة والمخاد والمسند والدواة العظيمة الشأن؛ ويحمل دواته أستاذ من خواص الخليفة عند حضوره إلى مجلس الخلافة. قلت: ومرتبته في زماننا أرفع مرتبة، ومحله أعظم محل؛ إليه تلقى أسرار المملكة وخفاياها، وبرأيه يستضاء في مشكلاتها، وعلى تدبيره يعول في مهماتها، وإليه ترد المكاتبات، وعنه تصدر، ومن ديوانه تكتب الولايات السلطانية كافة، ويقوم توقيعه على القصص في نفوذ الأوامر مقام توقيع السلطان، وجميع ما يعلم عليه السلطان من جليل وحقير في مزرته حتى ما يكتب من ديوان الجيش من المناشير، وما يكتب من ديوان الوزارة وديوان الخاص وغيرهما من المربعات ونحوها. وليس لأحد من المتولين لهذه المناصب التعرض لأخذ علامة سلطانية البتة، وناهيك بذلك رفعة وشرفاً باذخاً. وأما لقبه الجاري عليه في كل زمن فقد تقدم أنهم كانوا في زمن بني أمية وما قبله يعبرون عنه بالكاتب، لا يعرفون غير ذلك كما أشار إليه القضاعي في عيون المعارف. فلما جاءت الدولة العباسية، واستقر السفاح أول خلفائهم في الخلافة، لقب كاتبه أبا سلمة الخلال بالوزارة وترك اسم الكاتب واستقر لقب الوزارة على من يليها من أرباب السيوف والأقلام إلى انقراض الخلافة من بغداد. وتقدم أيضاً أن هذا الديوان كان تارة يضاف إلى الوزارة فيكون الوزير هو الذي يباشره بنفسه أو يفوضه إلى من يتحدث فيه عنه، وتارة ينفرد عنها، فحيث انفرد عن الوزارة لقب متوليه بما يتضمن إضافته إلى صحابة الديوان وولايته بحسب ما يشتهر به الديوان في ذلك الزمن. فحيث كان الديوان مشهوراً بديوان الرسائل، كما كان في الزمن الأول، لقب متوليه بصاحب ديوان الرسائل أو متولي ديوان الرسائل، وربما قيل صاحب ديوان المكاتبات، أو متولي ديوان المكاتبات؛ وحيث كان الديوان مشهوراً بديوان الإنشاء كما في زماننا بالديار المصرية لقب متوليه بصاحب ديوان الإنشاء. وربما جمعوا لفظ الديوان تعظيماً لمتوليه، فقالوا صاحب دواوين الإنشاء بالممالك الإسلامية. وعلى هذا مصطلح كتاب الديوان في زماننا في تعريفه فيما يكتب له من تقليد أو غيره؛ على أنه لو قيل ناظر دواوين الإنشاء لكان أعلى في الرتبة لما أشتهر في العرف من أن لفظ ناظر الديوان أعلى من صاحب الديوان. قال ابن الطوير: وكانوا يلقبونه في الدولة الفاطمية بالديار المصرية كاتب الدست. قلت: انتهى الأمر إلى أوائل الدولة التركية والحال في ذلك مختلف، فتارة يلي الديوان كاتب واحد يعبر عنه بكاتب الدست، وربما عبر عنه بكاتب الدرج، وتارة يليه جماعة يعبر عنهم بكتاب الدست. ويقال إنهم كانوا في أيام الظاهر بيبرس ثلاثة نفر، أرفعهم درجة القاضي محي الدين بن عبد الظاهر. وبقي الأمر على ذلك إلى أن ولي الديوان القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر في أيام المنصور قلاوون على ما تقدم ذكره، فلقب بكاتب السر، ونقل لقب كاتب الدست إلى طبقة دونه من كتاب الديوان. واستمر ذلك لقباً على كل من ولي الديوان إلى زماننا على ما سيأتي ذكره. ويضاهيه في ذلك من العرف العام متولي ديوان الإنشاء بدمشق، وبحلب، وبطرابلس، وبحماة، وبصفد، إلا أنه لا يقال في واحد منهم في مصطلح الديوان صاحب دواوين الإنشاء كما يقال في متولي ديوان الإنشاء بالديار المصرية، بل يقال في متولي ديوان دمشق صاحب ديوان الإنشاء بالشام، وفي متولي ديوان حلب صاحب ديوان المكاتبات بحلب، وكذا في الباقيات. أما غزة، والكرك، والإسكندرية وغيرها من النيابات الصغار فإنما يقال في متولي شيء من دواوينها كاتب درج ولا يطلق عليه كاتب سر بوجه. واعلم أن العامة يبدلون الباء من كاتب السر بميم فيقولون كاتم السر، وهو صحيح المعنى إما لأنه يكتم سر الملك، أو من باب إبدال الباء بالميم على لغة ربيعة وإن كانوا لا يعرفون الثاني. .الفصل الثاني في صفة صاحب هذا الديوان: قلت: وهذه الصفة هي الشرط اللازم، والواجب المحتم: بها شهر، وبالإضافة إليها عرف. وقد قال المأمون وهو من أعلى الخلفاء مكاناً، وأوسعهم علماً: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم. ومن كلام بعض الحكماء: سرك من دمك. وإلى ذلك يشير أبو محجن الثقفي بقوله: وقال الوليد بن عتبة لأبيه: إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً أفلا أخبرك به؟ قال يا بني: إن من كتم سره كان الخيار له ومن أفشاه كان الخيار عليه؛ فلا تكون مملوكاً بعد أن كنت مالكاً. وقد كانت ملوك الفرس تقول: أعظم الناس حقاً على جميع الطبقات من ولي أسرار الملوك. واعلم أنه إذا كان إفشاء السر ربما أفضى إلى الهلكة، خصوصاً أسرار الملوك، فعلى صاحب هذه الوظيفة القيام من ذلك بواجبه وكتمان السر حتى عن نفسه، فقد حكى صاحب الريحان والريعان: أن عبد الله بن طاهر تذاكر الناس في مجلسه حفظ السر، فقال عبد الله: فقال ابنه عبيد الله، وهو صبي: وعلى صاحب هذه الرتبة الاحتياط حالة تلقي السر عن الملك بأن لا يتلقاه عنه بحضرة أحد. فقد حكي أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه، فقال أحدهما: لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحداً إلا خالياً فإنه أموت للسر وأحرم للرأي وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض، فإن إفشاء السر إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين وإفشاءه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعته، لأن الواحد رهن بما أفشي إليه. والثاني مطلق عليه ذلك الرهن. والثالث علاوة، وإذا كان السر عند واحد كان أحرى أن لا يظهره رغبة أو رهبة، وإن كان عدي اثنين كان على شبهة واتسعت عن الرجلين المعاريض، فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتهمهما اتهم بريئاً بجناية مجرم، وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له، وعن الآخر ولا حجة معه. قلت: وكما يجب عليه الاحتياط حالة تلقي السر عن الملك فكذلك يجب عليه الاحتياط حالة إلقائه إلى كاتب يكتبه، فلا يلقيه إلى كاتبين جميعاً، ولا يخاطب فيه أحدهما بحضرة الآخر لتكون العهدة في دركه على واحد بعينه. على أنه ربما أفشي السر مع احتراز صاحبه عن إفشائه، فقد قيل: إن الجن تنقل الأخبار، وتفشي ما تطلع عليه من الأسرار. وقد حكي عن علي بن الجهم أنه قال: دخلت على أمير المؤمنين المتوكل فرأيت الفتح بن خاقان وزيره واقفاً على غير مرتبة التي يقوم عليها، متكأ على سيفه، مطرقاً إلى الأرض فأنكرت حالهن وكنت إذا نظرت إليه نظر الخليفة إلي، وإذا صرفت وجهي إلى نحو الخليفة أطرق؛ فقال لي الخليفة: يا علي أنكرت شيئاً؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين! قال كما هو؟ قلت: وقوف الفتح بن خاقان في غير منزلته، قال: سوء اختياره أقامه ذلك المقام، قلت: ما السبب يا أمير المؤمنين؟ قال: خرجت من عند جارية لي فأسررت إليه سراً فما عداني السر أن عاد إلي. قلت: لعلك أسررت إلى غيره، قال: ما كان هذا! قلت: فلعل مستمعاً استمع إليكما، قال: لا ولا هذا أيضاً. قال فأطرقت ملياً ثم رفعت رأسي، فقلت: يا أمير المؤمنين قد وجدت له مما هو فيه مخرجاً. قال وما هو؟ قلت: خبر أبي الجوزاء، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبي الجوزاء قال: طلقت امرأتي في نفسي وأنا بالمسجد ثم انصرفت إلى منزلي، فقالت لي امرأتي: طلقتني يا أبا الجوزاء! قلت من أين لك هذا؟ قالت حدثتني به جارتي الأنصارية قلت: ومن أين لها هذا؟ قلت ذكرت أن زوجها خبرها بذلك قال: فغدوت على ابن عباس رضي الله عنهما فصصت عليه القصة فقال: أما علمت أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل؟ فمن هنا يفشو السر، فضحك المتوكل، وقال إلي يا فتح! فصب عليه خلعة، وحمله على فرس، وأمر له بمال، وأمر لي بدونه فانصرفت إلى منزلي، وقد شاطرني الفتح فيما أخذ فصار إلي الأكثر. قال أبو نعيم وكان في نفسي من حديث أبي الجوزاء شيء حتى حدثني حمزة بن حبيب الزيات. قال: خرجت سنة أريد مكة فبينا أنا في الطريق إذ ضلت راحلتي فخرجت أطلبها فإذا أنا باثنين قد قبضا علي أحس حسهما ولا أرى شخصهما بل أسمع كلامهما، فأخذاني إلى شيخ قاعد وهو حسن الشيبة فسلمت عليه فرد علي السلام فأفرخ روعي. ثم قال من أين وإلى أين؟ قلت من الكوفة إلى مكة. قال: ولم تخلفت عن أصحابك؟ قلت ضلت راحلتي فجئت أطلبها، فرفع رأسه إلى قوم عنده، وقال: أنيخوا راحلته، فأنيخت بين يدي. ثم قال: تقرأ القرآن؟ قلت نعم. قال فاقرأ، فقرأت حم الأحقاف حتى أتيت {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} فقال مكانك، أتدري كم كانوا، قلت لا. قال كنا أربعة: وكنت أنا المخاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فقلت: {يا قومنا أجيبوا داعي الله} ثم قال أتقول الشعر؟ قلت لا. قال فترويه؟ قلت نعم. قال هاته، فأنشدته قصيدة زهير بن أبي سلمى: أمن أم أوفى... فقال لمن هذه؟ قلت لزهير بن أبي سلمى قال: الجني؟ قلت: لا بل الإنسي. ثم رفع رأسه إلى قوم عنده، فقال ائتوني بزهير فأتي بشيخ كأنه قطعة لحم فألقي بين يديه. قال يا زهير. قال لبيك! قال أمن أم أوفى لمن هي؟ قال لي. قال هذا حمزة الزيات يذكر أنها لزهير بن أبي سلمى؛ قال: صدق وصدقت، قال: وكيف هذا؟ قال هو إلفي من الإنس وأنا تابعه من الجن، أقول الشيء فألقيه إليه في فهمه ويقول الشيء فآخذ عنه، فأنا قائها في الجن وهو قائلها في الإنس. قال أبو نعيم: فصدق عندي حديث أبي الجوزاء أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل.
|