فصل: الباب الخامس من المقدمة في قوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله وآداب أهله:

صباحاً 1 :16
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الباب الخامس من المقدمة في قوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله وآداب أهله:

وفيه أربعة فصول:

.الفصل الأول في بيان رتبة صاحب هذا الديوان ورفعة قدره وشرف محله ولقبه الجاري عليه في القديم والحديث:

أما رفعة محله وشرف قدره، فأرفع محل وأشرف قدر، يكاد أن لا يكون عند الملك أخص منه ولا ألزم لمجالسته، ولم يزل صاحب هذا الديوان معظماً عند الملوك في كل زمن، مقدماً لديهم على من عداه: يلقون إليه أسرارهم، ويخصونه بخفايا أمورهم، ويطلعونه على ما لم يطلع عليه أخص الأخصاء من الوزراء والأهل والولد؛ وناهيك برتبة هذا محلها! قال صاحب مواد البيان ليس في منزلة خدم السلطان والمتصرفين في مهماته أخص من كاتب الرسائل. فإنه أول داخل على الملك وآخر خارج عنه، ولا غنى له عن مفاوضته في آرائه، والإفضاء إليه بمهماته، وتقريبه من نفسه في آناء ليلة وساعات نهاره وأوقات ظهروه للعامة وخلواته، وإطلاعه على حوادث دولته ومهمات مملكته، فهو لذلك لا يثق بأحد من خاصته ثقته به، ولا يركن إلى قريب ولا نسيب ركونه إليه، ومحله منه في عائدة خدمته وأثرة دولته محل قبله الذي يؤامره في مشكل رأيه حتى يتنقح، ويراجعه في مهم تدبيره حتى يتضح، ولسانه الذي يقرر بترغيبه أولياءه على الطاعة والموافقة، ويستقر بترهيبه عن المعصية والمشاقة، ويقر بأوامره ونواهيه أمر سلطانه، وينزلها منازلها في متمهد مجالسها، ويتمكن من سياسة أجناده، وعمارة بلاده، ومصلحة رعيته، واجتلاب مودتهم، واستخلاص نياتهم، وعينه التي تلاحظ أحوال سلطانه، ويرعيها مهمات شأنه، وأذنه التي يثق بما وعته، ولا يرتاب بما سمعته؛ ويده التي يبسطها بالإنعام، ويبطش بها في النقض والإبرام.
قال: ومن كانت هذه رتبته فالسبب الذي رتبه فيها أفضل الأسباب وأجدرها بالتقديم على الاستحقاق والاستيجاب.
قال ابن الطوير في ترتيب الدولة الفاطمية وكان هذا المنصب لا يتولاه في الدولة الفاطمية إلا أجل كتاب البلاغة، ويخاطب بالأجل، وإليه تسلم المكاتبة واردة مختومة فيعرضها على الخليفة من يده، وهو الذي يأمر بتنزيلها والإجابة عنها وربما بات عند الخليفة ليالي، وهذا أمر لا يصل إليه غيره. قال: وهو أول أرباب الإقطاعات في الكسوة والرسوم والملاطفات ولا سبيل أن يدخل إلى ديوانه أحد ولا يجتمع بأحد من كتابه إلا الخواص، وله حاجب من الأمراء الشيوخ، وله في مجلسه المرتبة العظيمة والمخاد والمسند والدواة العظيمة الشأن؛ ويحمل دواته أستاذ من خواص الخليفة عند حضوره إلى مجلس الخلافة.
قلت: ومرتبته في زماننا أرفع مرتبة، ومحله أعظم محل؛ إليه تلقى أسرار المملكة وخفاياها، وبرأيه يستضاء في مشكلاتها، وعلى تدبيره يعول في مهماتها، وإليه ترد المكاتبات، وعنه تصدر، ومن ديوانه تكتب الولايات السلطانية كافة، ويقوم توقيعه على القصص في نفوذ الأوامر مقام توقيع السلطان، وجميع ما يعلم عليه السلطان من جليل وحقير في مزرته حتى ما يكتب من ديوان الجيش من المناشير، وما يكتب من ديوان الوزارة وديوان الخاص وغيرهما من المربعات ونحوها. وليس لأحد من المتولين لهذه المناصب التعرض لأخذ علامة سلطانية البتة، وناهيك بذلك رفعة وشرفاً باذخاً.
وأما لقبه الجاري عليه في كل زمن فقد تقدم أنهم كانوا في زمن بني أمية وما قبله يعبرون عنه بالكاتب، لا يعرفون غير ذلك كما أشار إليه القضاعي في عيون المعارف. فلما جاءت الدولة العباسية، واستقر السفاح أول خلفائهم في الخلافة، لقب كاتبه أبا سلمة الخلال بالوزارة وترك اسم الكاتب واستقر لقب الوزارة على من يليها من أرباب السيوف والأقلام إلى انقراض الخلافة من بغداد. وتقدم أيضاً أن هذا الديوان كان تارة يضاف إلى الوزارة فيكون الوزير هو الذي يباشره بنفسه أو يفوضه إلى من يتحدث فيه عنه، وتارة ينفرد عنها، فحيث انفرد عن الوزارة لقب متوليه بما يتضمن إضافته إلى صحابة الديوان وولايته بحسب ما يشتهر به الديوان في ذلك الزمن.
فحيث كان الديوان مشهوراً بديوان الرسائل، كما كان في الزمن الأول، لقب متوليه بصاحب ديوان الرسائل أو متولي ديوان الرسائل، وربما قيل صاحب ديوان المكاتبات، أو متولي ديوان المكاتبات؛ وحيث كان الديوان مشهوراً بديوان الإنشاء كما في زماننا بالديار المصرية لقب متوليه بصاحب ديوان الإنشاء. وربما جمعوا لفظ الديوان تعظيماً لمتوليه، فقالوا صاحب دواوين الإنشاء بالممالك الإسلامية. وعلى هذا مصطلح كتاب الديوان في زماننا في تعريفه فيما يكتب له من تقليد أو غيره؛ على أنه لو قيل ناظر دواوين الإنشاء لكان أعلى في الرتبة لما أشتهر في العرف من أن لفظ ناظر الديوان أعلى من صاحب الديوان.
قال ابن الطوير: وكانوا يلقبونه في الدولة الفاطمية بالديار المصرية كاتب الدست.
قلت: انتهى الأمر إلى أوائل الدولة التركية والحال في ذلك مختلف، فتارة يلي الديوان كاتب واحد يعبر عنه بكاتب الدست، وربما عبر عنه بكاتب الدرج، وتارة يليه جماعة يعبر عنهم بكتاب الدست. ويقال إنهم كانوا في أيام الظاهر بيبرس ثلاثة نفر، أرفعهم درجة القاضي محي الدين بن عبد الظاهر. وبقي الأمر على ذلك إلى أن ولي الديوان القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر في أيام المنصور قلاوون على ما تقدم ذكره، فلقب بكاتب السر، ونقل لقب كاتب الدست إلى طبقة دونه من كتاب الديوان. واستمر ذلك لقباً على كل من ولي الديوان إلى زماننا على ما سيأتي ذكره. ويضاهيه في ذلك من العرف العام متولي ديوان الإنشاء بدمشق، وبحلب، وبطرابلس، وبحماة، وبصفد، إلا أنه لا يقال في واحد منهم في مصطلح الديوان صاحب دواوين الإنشاء كما يقال في متولي ديوان الإنشاء بالديار المصرية، بل يقال في متولي ديوان دمشق صاحب ديوان الإنشاء بالشام، وفي متولي ديوان حلب صاحب ديوان المكاتبات بحلب، وكذا في الباقيات. أما غزة، والكرك، والإسكندرية وغيرها من النيابات الصغار فإنما يقال في متولي شيء من دواوينها كاتب درج ولا يطلق عليه كاتب سر بوجه.
واعلم أن العامة يبدلون الباء من كاتب السر بميم فيقولون كاتم السر، وهو صحيح المعنى إما لأنه يكتم سر الملك، أو من باب إبدال الباء بالميم على لغة ربيعة وإن كانوا لا يعرفون الثاني.

.الفصل الثاني في صفة صاحب هذا الديوان:

قال أبو الفضل الصوري في مقدمة تذكرته: يجب أن يكون صبيح الوجه، فصي الألفاظ، طلق اللسان، أصيلاً في قومه، رفيعاً في حيه، وقوراً، حليماً مؤثراً للجد على الهزل، كثير الأناة والفق، قليل العجلة والخرق، نزر الضحك، مهيب المجلس، ساكن الظل، وقور النادي، شديد الذكاء، متوقد الفهم، حسن الكلام إذا حدث، حسن الإصغاء إذا حدث، سريع الرضا، بطيء الغضب، رءوفاً بأهل الدين، ساعياً في مصالحهم، محباً لأهل العلم والأدب، راغباً في نفعهم؛ وأن يكون محباً للشغل أكثر من محبته للفراغ، مقسماً للزمان على أشغاله: يجعل لكل منها جزءاً منه حتى يستوعبه في جميع أقسامها، ملازماً لمجلس الملك إذا كان جالساً، وملازماً للديوان إذا لم يكن الملك جالساً: ليتأسى به سائر كتاب الديوان، ولا يجدوا رخصة في الغيبة عن ديوانهم؛ وأن يغلب هوى الملك على هواه ورضاه على رضاه، ما لم ير في ذلك خللاً على المملكة، فإنه يجب أن يهدي النصيحة فيها للملك من غير أن يوجده فيما تقدم من رأيه فساداً أو نقصاً، لكن يتحيل لنقص ذلك وتهجينه في نفسه وإيضاح الواجب فيه بأحسن تأن وأفضل تلطف؛ وأن ينحل الملك صائب الآراء ولا ينتحلها عليه، ومهما حدث من الملك: من رأي صائب أو فعل جميل أو تدبير حميد، أشاعه وأذاعه، وعظمه وفخمه، وكرر ذكره، وأوجب على الناس حمده عليه وشكره. وإذا قال الملك قولاً في مجلسه أو بحضرة جماعة ممن يخدمه فلم يره موافقاً للصواب، فلا يجبه بالرد عليه واستهجان ما أتى به، فإن ذلك خطأ كبير، بل يصبر إلى حين الخلوة، ويدخل في أثناء كلامه ما يوضح به نهج الصواب من غير تلق برد، ولا يتبجح بما عنده، ويكون من تابعاً للملك على أخلاقه الفاضلة، وطباعه الشريفة: من بسط المعدلة، ومد رواق الأمنة، ونشر جناح الإنصاف، وإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، وجبر الكسير، والإنعام على المعتر المستحق، والتوفر على الصدقات، وعمارة بيوت الله تعالى، وصرف الهمم إلى مصالحها، والنظر في أحوال الفقهاء وحملة كتاب الله العزيز بما يصلح، والالتفات إلى عمارة البلاد، وجهاد الأعداء، ونشر الهيبة، وإقامة الحدود في مواضعها، وتعظيم الشريعة، والعمل بأحكامها، فيكون لجميع ذلك مؤكداً، ولأفعاله فيه موطداً ممهداً. وإن أحس منه بخلة تنافي هذه الخلال، أو فعلة تخالف هذه الأفعال، نقله عنها بألطف سعي وأحسن تدريج، ولا يدع ممكناً في تبيين قبحها، وإصلاح رداءة عاقبتها، وفضيلة مخالفتها إلا بينه وأوضحه إلى أن يعيده إلى الفضائل التي هي بالملوك النبلاء أليق؛ وأن يكون مع ذلك بأعلى مكانة من اليقظة والاستدلال بقليل القول على كثيره، وببعض الشيء على جميعه، ويستغنى عن التصريح بالإشارة والإيماء، بل الرمز والإيحاء: لينبه الملك على الأمور من أوائلها، ويعرفه خاتم الأشياء من مفتتحاتها، ويحذره حين تبدو له لوائح الأمر من قبل أن يتساوى فيه العالم والجاهل، كما حكي عن خالد بن برمك: أنه كان مع قحطبة في معسكر، جالسين في خيمة إذ نظر خالد إلى سرب من الظباء قد أتى حتى كاد يخالط العسكر، فأشار على قحطبة بالركوب فسأله عن السبب، فقال الأمر أعجل أن أبين سببه. فركب وأركب العسكر، فلم يستتموا الركوب إلا والعدو قد دهمهم، وقد استعدوا له فكانت النصرة لهم على العدو. فلما انقضى الحرب سأل قحطبة خالداً من أين أدرك ذلك؟ فقال: رأيت الظباء وقد أقبلت حتى خالطت العسكر، فعرفت أنها لم تفعل ذلك مع نفورها من الإنس إلا لأمر عظيم قد دهمها من ورائها. وأن لا يكتب عنو الملك إلا ما يقيم منار دولته ويعظمها، ولا يخرج عن حكم الشريعة وحدودها، ولا يكتب ما يكون فيه عيب على المملكة ولا ذم لها على غابر الأيام، مستأنف الأحقاب؛ وإن أمر بشيء يخرج عن ذلك، وتلطف في المراجعة بسببه، وبين وجه الصواب فيه إلى أن يرجع به إلى الواجب. وأن يكون من كتام السر بالمنزلة التي لا يدانيه فيها أحد، ولا يقاربه فيها بشر، حتى يقرر في نفسه إماتة كل حديث يعلمه ويتناسى كل خبر يسمعه. وأن لا يطلع والداً ولا ولداً، ولا أخاً شقيقاً، ولا صديقاً صدوقاً، على ما دق أو جل، ولا يعلمه بما كثر منه ولا قل، ويتوهم بل يتحقق أن في إذاعته ما يعلم به وضع منزلته وحط رتبته، ويجتهد في أن يصير له ذلك طبعاً مركباً وأمراً ضرورياً.
قلت: وهذه الصفة هي الشرط اللازم، والواجب المحتم: بها شهر، وبالإضافة إليها عرف. وقد قال المأمون وهو من أعلى الخلفاء مكاناً، وأوسعهم علماً: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم.
ومن كلام بعض الحكماء: سرك من دمك. وإلى ذلك يشير أبو محجن الثقفي بقوله:
قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض ** وأكتم السر فيه ضربة العنق

وقال الوليد بن عتبة لأبيه: إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً أفلا أخبرك به؟ قال يا بني: إن من كتم سره كان الخيار له ومن أفشاه كان الخيار عليه؛ فلا تكون مملوكاً بعد أن كنت مالكاً. وقد كانت ملوك الفرس تقول: أعظم الناس حقاً على جميع الطبقات من ولي أسرار الملوك.
واعلم أنه إذا كان إفشاء السر ربما أفضى إلى الهلكة، خصوصاً أسرار الملوك، فعلى صاحب هذه الوظيفة القيام من ذلك بواجبه وكتمان السر حتى عن نفسه، فقد حكى صاحب الريحان والريعان: أن عبد الله بن طاهر تذاكر الناس في مجلسه حفظ السر، فقال عبد الله:
ومستودعي سراً تضمنت ستره ** فأودعته في مستقر الحشا قبرا

فقال ابنه عبيد الله، وهو صبي:
وما السر من قلبي كثاو بحفرة ** لأني أرى المدفون ينتظر الحشرا

ولكنني أخفيه حتى كأنني ** من الدهر يوماً ما أحطت به خبرا

وعلى صاحب هذه الرتبة الاحتياط حالة تلقي السر عن الملك بأن لا يتلقاه عنه بحضرة أحد. فقد حكي أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه، فقال أحدهما: لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحداً إلا خالياً فإنه أموت للسر وأحرم للرأي وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض، فإن إفشاء السر إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين وإفشاءه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعته، لأن الواحد رهن بما أفشي إليه. والثاني مطلق عليه ذلك الرهن. والثالث علاوة، وإذا كان السر عند واحد كان أحرى أن لا يظهره رغبة أو رهبة، وإن كان عدي اثنين كان على شبهة واتسعت عن الرجلين المعاريض، فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتهمهما اتهم بريئاً بجناية مجرم، وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له، وعن الآخر ولا حجة معه.
قلت: وكما يجب عليه الاحتياط حالة تلقي السر عن الملك فكذلك يجب عليه الاحتياط حالة إلقائه إلى كاتب يكتبه، فلا يلقيه إلى كاتبين جميعاً، ولا يخاطب فيه أحدهما بحضرة الآخر لتكون العهدة في دركه على واحد بعينه. على أنه ربما أفشي السر مع احتراز صاحبه عن إفشائه، فقد قيل: إن الجن تنقل الأخبار، وتفشي ما تطلع عليه من الأسرار. وقد حكي عن علي بن الجهم أنه قال: دخلت على أمير المؤمنين المتوكل فرأيت الفتح بن خاقان وزيره واقفاً على غير مرتبة التي يقوم عليها، متكأ على سيفه، مطرقاً إلى الأرض فأنكرت حالهن وكنت إذا نظرت إليه نظر الخليفة إلي، وإذا صرفت وجهي إلى نحو الخليفة أطرق؛ فقال لي الخليفة: يا علي أنكرت شيئاً؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين! قال كما هو؟ قلت: وقوف الفتح بن خاقان في غير منزلته، قال: سوء اختياره أقامه ذلك المقام، قلت: ما السبب يا أمير المؤمنين؟ قال: خرجت من عند جارية لي فأسررت إليه سراً فما عداني السر أن عاد إلي. قلت: لعلك أسررت إلى غيره، قال: ما كان هذا! قلت: فلعل مستمعاً استمع إليكما، قال: لا ولا هذا أيضاً. قال فأطرقت ملياً ثم رفعت رأسي، فقلت: يا أمير المؤمنين قد وجدت له مما هو فيه مخرجاً. قال وما هو؟ قلت: خبر أبي الجوزاء، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبي الجوزاء قال: طلقت امرأتي في نفسي وأنا بالمسجد ثم انصرفت إلى منزلي، فقالت لي امرأتي: طلقتني يا أبا الجوزاء! قلت من أين لك هذا؟ قالت حدثتني به جارتي الأنصارية قلت: ومن أين لها هذا؟ قلت ذكرت أن زوجها خبرها بذلك قال: فغدوت على ابن عباس رضي الله عنهما فصصت عليه القصة فقال: أما علمت أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل؟ فمن هنا يفشو السر، فضحك المتوكل، وقال إلي يا فتح! فصب عليه خلعة، وحمله على فرس، وأمر له بمال، وأمر لي بدونه فانصرفت إلى منزلي، وقد شاطرني الفتح فيما أخذ فصار إلي الأكثر.
قال أبو نعيم وكان في نفسي من حديث أبي الجوزاء شيء حتى حدثني حمزة بن حبيب الزيات. قال: خرجت سنة أريد مكة فبينا أنا في الطريق إذ ضلت راحلتي فخرجت أطلبها فإذا أنا باثنين قد قبضا علي أحس حسهما ولا أرى شخصهما بل أسمع كلامهما، فأخذاني إلى شيخ قاعد وهو حسن الشيبة فسلمت عليه فرد علي السلام فأفرخ روعي. ثم قال من أين وإلى أين؟ قلت من الكوفة إلى مكة. قال: ولم تخلفت عن أصحابك؟ قلت ضلت راحلتي فجئت أطلبها، فرفع رأسه إلى قوم عنده، وقال: أنيخوا راحلته، فأنيخت بين يدي. ثم قال: تقرأ القرآن؟ قلت نعم. قال فاقرأ، فقرأت حم الأحقاف حتى أتيت {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} فقال مكانك، أتدري كم كانوا، قلت لا. قال كنا أربعة: وكنت أنا المخاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فقلت: {يا قومنا أجيبوا داعي الله} ثم قال أتقول الشعر؟ قلت لا. قال فترويه؟ قلت نعم. قال هاته، فأنشدته قصيدة زهير بن أبي سلمى:
أمن أم أوفى... فقال لمن هذه؟ قلت لزهير بن أبي سلمى قال: الجني؟ قلت: لا بل الإنسي. ثم رفع رأسه إلى قوم عنده، فقال ائتوني بزهير فأتي بشيخ كأنه قطعة لحم فألقي بين يديه. قال يا زهير. قال لبيك! قال أمن أم أوفى لمن هي؟ قال لي. قال هذا حمزة الزيات يذكر أنها لزهير بن أبي سلمى؛ قال: صدق وصدقت، قال: وكيف هذا؟ قال هو إلفي من الإنس وأنا تابعه من الجن، أقول الشيء فألقيه إليه في فهمه ويقول الشيء فآخذ عنه، فأنا قائها في الجن وهو قائلها في الإنس. قال أبو نعيم: فصدق عندي حديث أبي الجوزاء أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل.